زواج النبي من السيدة خديجة رضي الله عنها
غلام خديجة الذي صحب الرسول في تجارته
كانت السيدة خديجة رضي الله عنها -كما يروي ابن الأثير وابن هشام- امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الحديث وعظم الأمانة وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره، ومعه غلامها ميسرة.
وقد قبل محمد عليه الصلاة والسلام هذا العرض فرحل إلى الشام عاملاً في مالها ومعه ميسرة. فحالفه التوفيق في هذه الرحلة أكثر من غيرها، وعاد إلى السيدة خديجة رضي الله عنها بأرباح مضاعفة، فأدى لها ما عليه في أمانة تامة ونبل عظيم.
ووجد ميسرة من خصائص النبي صلّى الله عليه وسلم وعظيم أخلاقه ما ملأ قلبه، دهشة له، وإعجاباً به فروى ذلك إلى السيدة خديجة رضي الله عنها.
فأعجبت السيدة خديجة رضي الله عنها بعظيم أمانته، ولعلها دهشت لما نالها من البركة بسببه، فعرضت نفسها عليه زوجة بواسطة صديقتها (نفيسة بنت منيّة)، فوافق النبي عليه الصلاة والسلام، وكلّم في ذلك أعمامه فخطبوها له من عمها عمرو بن أسد. وتزوجها عليه الصلاة والسلام وقد تمّ له من العمر خمسة وعشرون عاماً ولها من العمر أربعون.
معلومات عن السيدة خديجة رضي الله عنها
وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها تدعى في الجاهلية الطاهرة لشدة عفافها وصيانتها وشرفها وكمالها، وقد تزوجها بكر أبو هالة بن زرارة التميمي فولدت له هنداً، وقد أسلم وحسن إسلامه، وهو راوي حديث صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، شهد بدراً وقيل وأحداً.
وروى عنه الحسن بن علي فقال: حدثني خالي، لأنه أخو فاطمة لأمها، وكان- رضي الله عنه- فصيحاً، بليغاً، وصّافاً، وكان يقول: «أنا أكرم الناس أباً، وأماً، وأخاً، وأختاً: أبي رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأمي خديجة، وأخي القاسم، وأختي فاطمة» قتل مع علي يوم الجمل.
وولدت له هالة ، قال ابن عبد البر: له صحبة، وروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قدم ابن خديجة رضي الله عنها يقال له هالة والنبي صلّى الله عليه وسلّم قائل، فسمعه فقال: «هالة، هالة، هالة» !! وروى الطبراني بسنده عن هالة بن أبي هالة أنه دخل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو راقد، فاستيقظ فضم هالة إلى صدره وقال: “هالة، هالة، هالة”
ثم بعد وفاة أبي هالة تزوج خديجة رضي الله عنها عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي، فولدت له هنداً وهي أنثى، أسلمت وصحبت النبي، ولم ترو شيئا. قاله الدارقطني، وهي أم محمد بن صيفي المخزومي، ويقال لولد محمد هذا بنو الطاهرة، لمكان السيدة خديجة رضي الله عنها.
زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها:
كانت السيدة خديجة رضي الله عنها امرأة حازمة جلدة شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، وكلّ قومها كان حريصاً على نكاحها لو قدر على ذلك. فقد طلبوها، وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيساً إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت:
يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: «ما بيدي ما أتزوج به» ، قالت: فإن كفيت ذلك، ودعيت إلى المال، والجمال، والشرف، والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: «فمن هي» ؟ قالت: قلت: خديجة، قال: «وكيف لي بذلك؟» ، قالت: قلت: علي، قال: «فأنا أفعل» ، فأعلمت خديجة رضي الله عنها أهلها، فوجدت منهم قبولاً وترحيباً، وحدّدت للنبي وأهله موعداً يحضرون فيه.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأعمامه، فخرج معه عمّاه: أبو طالب، وحمزة حتى جاؤوا بيت السيدة خديجة رضي الله عنها، فوجدوا عندها عمها عمرو بن أسد حاضراً، فخطبها منه أبو طالب لابن أخيه محمد، فوافق ورحّب وقال: هذا الفحل لا يقدع أنفه، وخطب أبو طالب خطبة الإملاك، وهي تنم عن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه، وشرفه، وشرف آبائه، وهي قطعة من بليغ الكلام، وفصيح القول.اقرأ أيضاً: نسب النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا الذي ذكرناه من أن الذي ولي تزويج السيدة خديجة رضي الله عنها هو عمها هو الذي عليه أكثر علماء السير، وهو الصحيح كما قال السهيلي، فإن أباها كان قد مات قبل ذلك.
قال الواقدي: الثّبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أن والد خديجة رضي الله عنها مات قبل حرب الفجار، وأن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها لمزيد حفظ الثبت وهو الزّهري، خصوصاً وقد رواه عن صحابي من السابقين، وكذلك ذكر الطبري- وهو من ثقات المؤرخين- أن عمها عمراً هو الذي أنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن خويلداً مات قبل الفجار، ويرى ابن إسحاق أن أباها هو الذي زوجها وهو رأي ضعيف.
خطبة أبي طالب في زواج السيدة خديجة رضي الله عنها:
قال: «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضىء معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل من قريش شرفاً ونبلاً وفضلاً إلّا رجح به، وهو وإن كان في المال قلّ، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، ومحمد من عرفتم قرابته، وهو- والله- بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل جسيم، وله في خديجة رضي الله عنها بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليّ.
وقد أمهرها أبو طالب اثنتي عشرة أوقية ونشّاً، يعني خمسمائة درهم، وأصدقها رسول الله زيادة على ذلك عشرين بكرة.
وليمة وعرس السيدة خديجة رضي الله عنها:
وبنى النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها، وأولم عليها: نحر جزوراً أو جزورين، وأطعم الناس، وأمرت خديجة رضي الله عنها جواريها أن يغنّين، ويضربن بالدفوف، فقد بلغت مناها، وتم الفرح والسرور، ولله در البوصيري حيث قال:
ورأته خديجة والتقى والزه … د فيه سجية والحياء
وأتاها أنّ الغمامة والسّرح … أظلته منهما أفياء
وأحاديث أن وعد رسول اللّ … هـ بالبعث حان منه الوفاء
فدعته إلى الزواج وما … أحسن أن يبلغ المنى الأذكياء
وكان عمر النبي حينئذ خمساً وعشرين سنة، وكان عمرها أربعين أو تزيد قليلاً، ونعمت السيدة خديجة رضي الله عنها بالزواج الذي لم تعرف له الدنيا مثيلاً في تاريخ الأزواج، ونعم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الزواج الميمون المبارك اقرأ أيضاً: مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم
اولاد السيدة خديجة رضي الله عنها
فقد كانت السيدة خديجة رضي الله عنها حازمة، عاقلة، طاهرة، وواست النبي صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال، ورزقه الله سبحانه وتعالى منها البنين والبنات،
فولدت له السيدة خديجة رضي الله عنها: القاسم وبه كان يكنى، وعبد الله، وقيل: ثلاثة بزيادة الطيب، وقيل: أربعة بزيادة الطاهر. وولدت له زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة- رضي الله عنهن.
أما الذكور من السيدة خديجة رضي الله عنها فقد ماتوا في الجاهلية صغاراً، وأما الإناث فقد عشن حتى تزوجن، وكلهن متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا فاطمة فقد توفيت بعده بستة أشهر، ومن ثمّ نرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذاق مرارة فقد الأبناء، كما ذاق من قبل مرارة فقد الأبوين.
وقد شاء الله- وله الحكمة البالغة- ألا يعيش له صلّى الله عليه وسلّم أحد من الذكور حتى لا يكون ذلك مدعاة لافتتان بعض الناس بهم، وادّعائهم لهم النبوة، فأعطاه الذكور تكميلاً لفطرته البشرية وقضاء لحاجات النفس الإنسانية، ثم أخذهم في الصغر، وأيضا ليكون في ذلك عزاء وسلوى للذين لا يرزقون البنين، أو يرزقونهم ثم يموتون، كما أنه لون من ألوان الابتلاء، وأشد الناس بلاء الأنبياء، فالأمثل فالأمثل، وقد كان مما نبزه به سفهاء المشركين، أنهم قالوا فيه: إنه أبتر أي لا عقب له.
فضائل خديجة رضي الله عنها
أما عمله صلّى الله عليه وسلم في مال السيدة خديجة رضي الله عنها، فهو استمرار لحياة الكدح التي بدأها برعي الأغنام، ولقد شرحنا طرفاً مما يتعلق بذلك من الحكمة والعبرة.
اقرأ أيضاً: قصة الراهب بحيرا
وأما فضائل خديجة رضي الله عنها ومنزلتها في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم فلقد ظلت للسيدة خديجة رضي الله عنها مكانة سامية عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم طوال حياته، وقد ثبت في الصحيحين أنها خير نساء زمانها على الإطلاق.
- روى البخاري ومسلم أن علياً رضي الله عنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد»
- وروى البخاري ومسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما غرت على نساء النبي صلّى الله عليه وسلم إلا على خديجة، وإني لم أدركها، قالت: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: “أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني قد رزقت حبّها»
- وروى أحمد والطبراني من طريق مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة رضي الله عنها فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام، فأخذتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها؟ فغضب ثم قال: «لا والله ما أبدلني الله خيراً منها: آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء
- وأما قصة زواجه صلّى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها، فإن أول ما يدركه الإنسان من هذا الزواج هو عدم اهتمام الرسول صلّى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسدية ومكملاتها، فلو كان مهتماً بذلك كبقية أقرانه من الشبان لطمع بمن هي أقل منه سناً أو بمن ليست أكبر منه على أقل تقدير.
ويتجلى لنا أنه صلّى الله عليه وسلم إنما رغب في السيدة خديجة رضي الله عنها لشرفها ونبلها بين جماعتها وقومها حتى إنها كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة.اقرأ أيضاً: أهمية السيرة النبوية
وفاة خديجة رضي الله عنها
ولقد ظل هذا الزواج قائماً حتى توفيت خديجة رضي الله عنها عن خمسة وستين عاما، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر، دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي امرأة أو فتاة أخرى، وما بين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزمن الذي تتحرك فيه رغبة الاستزادة من النساء والميل إلى تعدد الزوجات للدوافع الشهوانية.
ولكن محمداً صلّى الله عليه وسلم تجاوز هذه الفترة من العمر دون أن يفكر كما قلنا بأن يضم إلى خديجة رضي الله عنها مثلها من الإناث: زوجة أو أمة، ولو شاء لوجد الزوجة والكثير من الإماء، دون أن يخرق بذلك عرفاً أو يخرج على مألوف أو عرف بين الناس، هذا على الرغم من أنه تزوج خديجة رضي الله عنها وهي أيم، وكانت تكبره بما يقارب مثل عمره
للمزيد أكثر عن السيدة خديجة رضي الله عنها اقرأ: السيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة