الدعوة السرية للنبي صلى الله عليه وسلم
بُعث النبي محمد عليه الصلاة والسلام رسولاً وهو في الأربعين من عمره؛ حيث نزل عليه الوحي في غار حراء، وقد استمرت دعوته ثلاثاً وعشرين سنة، أي حتى الثالثة والستين من عمره، وجزء من هذه الدعوة كان في مكة، والجزء الآخر في المدينة، حيث استمرت دعوته في مكة ثلاث عشرة سنة، وبدأ عليه الصلاة والسلام الدعوة السرية، ولم يجهر بها إلا بعد سنوات
مراحل الدّعوة الإسلاميّة في حياة النّبي صلّى الله عليه وسلم:
مرّت الدّعوة الإسلامية في حياته عليه الصلاة والسلام، منذ بعثته إلى وفاته بأربع مراحل:
- المرحلة الأولى: الدعوة السرية، واستمرت ثلاث سنوات.
- المرحلة الثانية: الدعوة الجهرية، وباللسان فقط، واستمرت إلى الهجرة.
- المرحلة الثالثة: الدعوة الجهرية، مع قتال المعتدين والبادئين بالقتال أو الشّر، واستمرت هذه المرحلة إلى عام صلح الحديبية.
- المرحلة الرابعة: الدعوة الجهرية مع قتال كل من وقف في سبيل الدعوة أو امتنع عن الدخول في الإسلام- بعد فترة الدعوة والإعلام- من المشركين أو الملاحدة أو الوثنيين.
وكانت هذه المرحلة هي التي استقر عليها أمر الشريعة الإسلامية وقام عليها، حكم الجهاد في الإسلام.
والآن سنتعرف على تعريف الدعوة السرية
تعريف الدعوة السرية
بدأ النّبي صلّى الله عليه وسلم يستجيب لأمر الله، حيث بدأت الدعوة السرية فأخذ يدعو إلى عباده الله وحده ونبذ الأصنام، ولكنه كان يدعو إلى ذلك سرّاً حذراً من وقع المفاجأة على قريش التي كانت متعصبة لشركها و وثنيتها، فلم يكن عليه الصلاة والسلام يظهر الدّعوة في المجالس العمومية لقريش، ولم يكن يدعو إلا من كانت تشدّه إليه قرابة أو معرفة سابقة.
ما هي الدعوة السرية:
وكان في أوائل من دخل الإسلام خلال الدعوة السرية من هؤلاء: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة والسلام ومتبنّاه، وأبو بكر بن أبي قحافة، وعثمان بن عفان، والزّبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.. وغيرهم، رضي الله عنهم جميعا.
فكان هؤلاء يلتقون بالنّبي صلّى الله عليه وسلم سرّاً،ولذلك سميت الدعوة السرية، وكان أحدهم إذا أراد ممارسة عبادة من العبادات ذهب إلى شعاب مكة يستخفي فيها عن أنظار قريش. اقرأ قصة عثمان بن عفان
ثم لما أصبح الذين دخلوا في الإسلام على الثلاثين- ما بين رجل وامرأة- اختار لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم دار أحدهم، وهو الأرقم بن أبي الأرقم، ليلتقي بهم فيها لحاجات الإرشاد والتعليم، وكانت حصيلة الدعوة السرية في هذه الفترة ما يقارب أربعين رجلاً وامرأة دخلوا في الإسلام، عامتهم من الفقراء والأرقاء وممن لا شأن له بين قريش
مدة الدعوة السرية:
استمرت الدعوة السرية بشكل سريّ مدة ثلاث سنوات؛ حيث بدأت منذ تكليفه عليه الصلاة والسلام بالرسالة، حتى السنة الثالثة من البعث، ثم بعدها تم الجهر بالدعوة، ولكن هذا الأمر يستلزم منا معرفة سبب الدعوة السرية، وبمن بدأ عليه الصلاة والسلام دعوته، والعبادة التي فرضت على المسلمين في الدعوة السرية، ثم كيفية تحول الدعوة السرية إلى دعوة جهرية
الحكمة من الدعوة السرية؟
لا ريب أن تكتّم النّبي صلّى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، من خلال الدعوة السرية، خلال هذه السنوات الأولى، لم يكن بسبب الخوف على نفسه، فهو حينما كلف بالدعوة ونزل عليه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ..} علم أنه رسول الله إلى الناس،
وهو لذلك كان يوقن بأن الإله الذي ابتعثه وكلّفه بهذه الدعوة قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس، على أن الله عزّ وجلّ لو أمره من أول يوم أن يصدع بالدعوة بين الناس علناً، لما توانى عن ذلك ساعة، ولو كان يتراءى له في ذلك مصرعه.
ولكن الله عزّ وجلّ ألهمه- والإلهام للرسول نوع من الوحي إليه- أن يبدأ الدعوة السرية، في فترتها الأولى، بسرّيّة وتكتّم، وأن لا يلقى بها إلا من يغلب على ظنه أنه سيصيخ لها ويؤمن بها، تعليماً للدّعاة من بعده
وإرشاداً لهم إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها. على أن لا يتغلب كل ذلك على الاعتماد والاتّكال على الله وحده، وعلى أن لا يذهب الإنسان في التمسك بهذه الأسباب مذهبا يعطيها معنى التأثير والفعالية في تصوّره وتفكيره. فهذا يخدش أصل الإيمان بالله تعالى، فضلا عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة إلى الإسلام.
ومن هنا تدرك، أن أسلوب دعوته عليه الصلاة والسلام من خلال الدعوة السرية في هذه الفترة، كان من قبيل السياسة الشرعية بوصف كونه إماماً، وليس من أعماله التبليغية عن الله تعالى بوصف كونه نبيّا.
وبناء على ذلك فإنه يجوز لأصحاب الدعوة الإسلامية، في كل عصر أن يستعملوا المرونة في كيفية الدعوة- من حيث التكتّم والجهر، أو اللين والقوة- حسبما يقتضيه الظرف وحال العصر الذي يعيشون فيه
وهي مرونة حددتها الشريعة الإسلامية، اعتمادا على واقع سيرته صلّى الله عليه وسلم، ضمن الأشكال أو المراحل الأربعة التي سبق ذكرها، على أن يكون النظر في كل ذلك إلى مصلحة المسلمين ومصلحة الدعوة الإسلامية.
ومن أجل هذا أجمع جمهور الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد أو ضعف العدّة بحيث يغلب الظن أنهم سيقتلون من غير أي نكاية في أعدائهم، إذا ما أجمعوا قتالهم، فينبغي، أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس، لأن المصلحة المقابلة وهي مصلحة حفظ الدّين موهومة أو منفيّة الوقوع.
ويقرّر العزّ بن عبد السلام حرمة الخوض في مثل هذا الجهاد قائلا:
“فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام، لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة، ليس في طيّها مصلحة”
قلت: وتقديم مصلحة النفس هنا، من حيث الظاهر فقط.اقرأ أيضاً: قصة اسلام عمر بن الخطاب
أمّا من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد، فإنها في الواقع مصلحة دين، إذ المصلحة الدّينية تقتضي- في مثل هذه الحال- أن تبقى أرواح المسلمين سليمة لكي يتقدموا ويجاهدوا في الميادين المفتوحة الأخرى. وإلّا فإن هلاكهم يعتبر إضرارا بالدّين نفسه وفسحا للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدودا أمامهم من السّبل.
والخلاصة: أنه يجب المسالمة أو أن تكون الدعوة السرية هي التي يبدأ بها، إذا كان الجهر أو القتال يضرّ بها، ولا يجوز الإسرار في الدعوة إذا أمكن الجهر بها وكان ذلك مفيدا، ولا يجوز المسالمة مع الظالمين والمتربصين بها إذا توفرت أسباب القوة والدفاع عنها، ولا يجوز القعود عن جهاد الكافرين في عقر دورهم إذا ما توفرت وسائل ذلك وأسبابه.
الدعوة السرية للرسول
وتحدثت السّيرة أن الذين دخلوا في الإسلام في مرحلة الدعوة السرية، كان معظمهم خليطاً من الفقراء والضعفاء والأرقاء، فما الحكمة في ذلك؟ وما السّر في أن تتأسس الدولة الإسلامية على أركان من مثل هؤلاء الناس؟
والجواب: إن هذه الظاهرة في عدد المسلمين في الدعوة السرية هي الثمرة الطبيعية لدعوة الأنبياء في فترتها الأولى، ألم تر إلى قوم نوح كيف كانوا يعيّرونه بأن أتباعه الذين من حوله ليسوا إلا من أراذل الناس ودهمائهم:
قال تعالى: {ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ..}
وإلى فرعون وشيعته كيف كانوا يرون أتباع موسى أذلاء مستضعفين، حتى قال عنهم بعد أن تحدث عن هلاك فرعون وأشياعه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها}، [الأعراف 7/ 137] .
وإلى ثمود الذين أرسل الله إليهم صالحا، كيف تولى عنه الزعماء المستكبرون، وآمن به الناس المستضعفون، حتى قال الله في ذلك: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} [الأعراف 7/ 75- 76] .
والسّرّ في ذلك، أن حقيقة هذا الدّين الذي بعث الله به عامة أنبيائه ورسله، إنما هي الخروج عن سلطان الناس وحكمهم إلى سلطان الله وحكمه وحده.
وهي حقيقة تخدش أول ما تخدش ألوهية المتألهين وحاكمية المتحكمين وسطوة المتزعمين، وتناسب أول ما تناسب حالة المستضعفين والمستذلين والمستعبدين، فيكون ردّ الفعل أمام الدعوة إلى الإسلام لله وحده هو المكابرة والعناد من أولئك المتألهين والمتحكمين،
والإذعان والاستجابة من هؤلاء المستضعفين، وانظر، فإن هذه الحقيقة تتجلى لك بوضوح في الحديث الذي دار بين رستم قائد الجيش الفارسي في وقعة القادسية، وربعي بن عامر الجندي البسيط في جيش سعد بن أبي وقاص.
فقد قال له رستم: “ما الذي دعاكم إلى حربنا والولوع بديارنا”؟
فقال: “جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده”. ثم نظر إلى صفوف الناس الراكعين عن يمين رستم وشماله، فقال متعجباً: “لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولكني لا أرى قوما أسفه منكم، إننا معشر المسلمين لا يستعبد بعضنا بعضا، ولقد ظننت أنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب لبعض..
فالتفت الدهماء المستضعفون إلى بعضهم يتهامسون:(صدق والله العربي)، أما القادة والرؤساء فقد وجدوا في كلام ربعي هذا ما يشبه الصاعقة أصابت كيانهم فحطمته، وقال بعضهم لبعض: «لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه»
ولا يعني هذا الكلام أن المستضعفين الذين أسرعوا إلى الإسلام قبل غيرهم لم يكن دخولهم فيه عن إيمان بل عن قصد ورغبة في التخلص من أذى المستكبرين وسلطانهم.
ذلك لأن الإيمان بالله وحده والتصديق بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، كان قدراً مشتركا بين زعماء قريش ومستضعفيها، فما منهم أحد إلا وهو يعلم صدق النّبي صلّى الله عليه وسلم فيما يخبر عن ربّه، غير أن الزعماء والكبراء فيهم كانت تصدّهم زعامتهم عن الانقياد والاتّباع له، وأجلى مثل على ذلك عمه أبو طالب.
وأما الفقراء والمستضعفون فما كان ليصدهم عن التجاوب مع إيمانهم والانقياد له عليه الصلاة والسلام شيء. أضف إلى ذلك ما يشعر به أحدهم عند إيمانه بألوهية الله وحده من الاعتزاز به وعدم الاكتراث بسلطان غير سلطانه أو قوة غير قوته.
فهذا الشعور الذي هو ثمرة للإيمان بالله عزّ وجلّ، يزيده في الوقت ذاته قوة ويجعل صاحبه في نشوة وسعادة غامرة، ومن هنا نعلم عظم الفرية التي يفتريها بعض محترفي الغزو الفكري في هذا العصر، حينما يزعمون بأن الدعوة التي قام بها محمد صلّى الله عليه وسلم، إنما هي من وحي بيئته العربية نفسها، وأنها إنما كانت تمثل حركة الفكر العربي إذ ذاك.
فلو كان كذلك، لما كان رصيد هذه الدعوة السرية بعد سنوات ثلاث من بدايتها، أربعين رجلاً وامرأة، معظمهم من الفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء، وفي مقدمتهم أخلاط من مختلفي الأعاجم: صهيب الرومي، وبلال الحبشي.
للمزيد عن الدعوة السرية اقرأ: فقه السيرة النبوية