درجات الصوم
ذكر الإمام الغزالي أن الصوم ليس على درجة واحدة، وإنما هو على درجات، فليس كل من امتنع عن المفطرات المادية يكون قد أتى بمعنى الصوم؛ إذ إن حقيقة الصوم فوق هذا، وهي الامتناع عن المفطرات المعنوية؛ ولأجل هذا المعنى جعل الغزالي درجات الصوم ثلاث، فقال في الإحياء: اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.
صوم العموم
أما صوم العموم فقد ذكره الغزالي من درجات الصوم الأولى، وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، فمنهم من صومه مجرد الامتناع عن الطعام والشراب وشهوة الفرج، ولكن قد يطلق لسانه بالغيبة والنميمة والكذب، ويطلق عينه للنظر المحرم، وسمعه للخنا والموسيقى ونحوها، وجوارحه للأذى والفساد، فهذا صوم ناقص ضعيف.
وقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشرابه)
صوم الخصوص
أما صوم الخصوص فقد ذكره الغزالي من درجات الصوم الثانية، وهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، فمن حفظ جوارحه عن المحرمات، فقد أتى بحقيقة الصوم، وهي المرتبة الثانية التي سماها الغزالي: صوم الخصوص.
صوم خصوص الخصوص
أما صوم خصوص الخصوص فهو من درجات الصوم الثالثة، وهو صوم القلب عن الصفات الدَنِّيَة، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين، فإن ذلك من زاد الآخرة، وليس من الدنيا،
مقولة أرباب القلوب في درجات الصوم
من تحركت همته بالتصرف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه، كُتبت عليه خطيئة، فإن ذلك من قلة الوثوق بفضل الله عز وجل، وقلة اليقين برزقه الموعود، وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين، ولا يطول النظر في تفصيلها قولاً، ولكن في تحقيقها عملاً، فإنه إقبال بكنه الهمة على الله عز وجل، وانصراف عن غير الله سبحانه، وتَلَبُّسٌ بمعنى قوله عز وجل: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون)
كيف يتحقق صوم الخصوص؟
إن صوم الخصوص – وهو صوم الصالحين – إنما يحصل بستة أمور:
الأول: غض البصر، وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يُذّم ويُكْره وإلى كل ما يُشغل القلب، ويلهي عن ذكر الله عز وجل، قال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم) (النور/ 30) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تتبع النظر النظر، فإن الأولى لك، وليست لك الآخرة) رواه أحمد
الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمِراء، وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن، فهذا صوم اللسان.
وقد قال سفيان: الغيبة تفسد الصوم. وروي عن مجاهد قوله: خصلتان تفسدان الصيام: الغيبة والكذب. وقال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جُنَّةٌ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابَّه أحد، أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم) متفق عليه.
الثالث: كفُّ السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه؛ لأن كل ما حَرُمَ قوله حَرُم الإصغاء إليه؛ ولذلك قرن الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت، فقال تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت) (المائدة:42)، وقال عز وجل: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت) (المائدة:63)
فالسكوت على الغيبة حرام. وقال تعالى: (إنكم إذاً مثلهم) (النساء:140)
الرابع: كفُّ بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكفُّ البطن عن الشبهات وقت الإفطار. فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال، ثم الإفطار على الحرام. فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصراً، ويهدم مِصْراً، فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله. وتارك الاستكثار من الدواء خوفاً من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهاً. والحرام سم مهلك للدِّين، والحلال دواء ينفع قليله، ويضر كثيره.
وقَصْدُ الصوم تقليله. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش) رواه أحمد. قيل: هو الذي يفطر على الحرام. وقيل: هو الذي يمسك عن الطعام الحلال، ويفطر على لحوم الناس بالغيبة. وقيل: هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار، بحيث يمتلىء جوفه، فقد أخرج النسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما وعاء شر من بطن، حسب المسلم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة؛ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه).
السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء؛ إذ ليس يدري أيُقبل صومه، فهو من المقربين، أو يُرَدُّ عليه فهو من الممقوتين؟ وقد روي عن الحسن البصري أنه مرَّ بقوم وهم يضحكون، فقال: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا
فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كُشِفَ الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. أي: كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك”.
ما هو مقصود الصوم؟
كيف يستفاد من الصوم قَهْرُ عدو الله، وكسر الشهوة، إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد عليه في ألوان الطعام؟ حتى استمرت العادات بأن تُدَّخَرَ جميع الأطعمة لرمضان، فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في غيره.
ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء، وكسر الهوى؛ لتقوى النفس على التقوى. وإذا مُنِعَت المعدة من وسط النهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها، وقويت رغبتها، ثم أُطعِمَت من اللذات وأُشبعت، زادت لذتها، وتضاعفت قوتها، وانبعث من الشهوات ما كانت راكدة.
فروح الصوم وسره إضعاف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل، وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، فأما إذا جمع ما كان يأكل نهاراً إلى ما كان يأكل ليلاً، فلا ينتفع بصومه.
ومن الآداب أن لا يُكْثِر النوم بالنهار حتى يَحُسَّ بالجوع والعطش، ويستشعر ضعف القوى، فيصفو عند ذلك قلبه، ويستديم في كل ليلة قدراً من الضعف، حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه، فينظر إلى ملكوت السماء.
كيف يعتبر الفقهاء من لم يتخلق بدرجات الصوم كاملة بصحة صومه؟
إن علماء الآخرة فيعنون بالصحة القبول، وبالقبول الوصول إلى المقصود. ويفهمون أن المقصود من الصوم التخلق بأخلاق الله عز وجل، والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات – بحسب الإمكان – فإنهم منزهون عن الشهوات.
والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم؛ لقدرته بنور العقل على كسر شهوته، ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه، وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل سافلين، والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات، ارتفع إلى أعلى عليين، والتحق بأفق الملائكة.
والملائكة مقربون من الله عز وجل، والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم، فإن الشبيه من القريب قريب، وليس القرب ثَمَّ بالمكان، بل بالصفات. وإذا كان هذا سر الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب، فأي جدوى لتأخير أكلة، وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأُخر طول النهار؟ ولو كان لمثله جدوى، فأي معنى لقوله صلى الله عليه وسلم: (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش).
ومن فهم معنى الصوم وسره، عَلِمَ أن مثل من كفَّ عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات، فقد وافق في الظاهر العدد، إلا أنه ترك المهم، وهو الغُسْلُ، فصلاته مردودة عليه بجهله. اقرأ أيضاً: أنواع الصيام
وبهذا تعلم، أن الصوم ليس في مرتبة واحدة، بل في مراتب متفاوتة، أعلاها صوم القلوب والجوارح عن كل ما لا يُرضي الله سبحانه من الأفعال والأقوال، وأدناها الصوم عن الطعام والشراب والنكاح، وشتان ما بينهما، وقد تبين لك الفرق بينهما.
ما صحة درجات الصوم التي ذكرها الامام الغزالي؟
هذه معان صحيحة، فإن المؤمنين يتفاوتون في الصوم، فمنهم من صومه مجرد الامتناع عن الطعام والشراب وشهوة الفرج، ولكن قد يطلق لسانه بالغيبة والنميمة والكذب، ويطلق عينه للنظر المحرم، وسمعه للخنا والموسيقى ونحوها، وجوارحه للأذى والفساد، فهذا صوم ناقص ضعيف.
وقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشرابه)
ومثل هذا يخشى على صومه، كما روى أحمد عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر)
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر رضي الله عنه قال:(ليس الصيام من الطعام والشراب وحده، ولكنه من الكذب، والباطل، واللغو، والحلف)، عن ميمون بن مهران قال: “إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب”.
فالمرتبة الأولى من مراتب الصوم: الصوم الناقص، الذي لا يحجز صاحبه عن محرمات اللسان والجوارح، وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء…
فمن حفظ جوارحه عن المحرمات، فقد أتى بحقيقة الصوم، وهي الدرجة الثانية من درجات الصوم التي سماها الغزالي: صوم الخصوص. اقرأ أيضاً: أفضل الأعمال في شهر رمضان
وأما الدرجة الثالثة من درجات الصوم، وهي صوم القلب عن الهمم الدنية، والأفكار الدنيوية، وجمعه بالكلية على الله وحده، فلا شك أنها مرتبة عظيمة لا يصل إليها إلا الموفقون، فإن القلب هو ملك الأعضاء، ومحل التقوى، ومحل نظر الرب سبحانه، وكمال العبادة يكون بجمعه على الله، وإقباله عليه، وقطع الشواغل عنه، فمن حقق الصوم بقلبه وجوارحه، فقد حاز الكمال.
فإن درجات الصوم ومراتب الصوم موجودة، وأن صيام الناس متفاوت، وأن على المؤمن أن يحقق الصوم بكل معانيه، وليس المقصود من ذلك: أن العوام لهم صوم، والخواص لهم صوم، بل الجميع مأمورون بتحقيق أعلى الصوم وأكمله، لكن اقتضت سنة الله تعالى في عباده أنهم متفاوتون في ذلك، كما أنهم متفاوتون في إقامة الصلاة وتحقيق الخشوع فيها.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم حقيقة الصوم، وأن يجعلنا من المقبولين.
للمزيد اقرأ: موقع إسلام ويب