علي بن أبي طالب رضي الله عنه
مع أئمة الهدى ومصابيح الدجى، ونحن اليوم على موعد مع العابد التقي الورع الذي تفوَّق على إغراء دنيا البشر، إننا اليوم على موعد مع خليفة آخر، من طراز عمر في شدته وعدله واستقامته وورعه وزهده وتواضعه، إنه الرجل والخطيب المفوه البارع الذي تهتز الدنيا لكلماته، وهي تخرج من وراء شفتيه كأنها نور يبدد الظلماء، إنه الفقيه العالم الذي يجري الحق على لسانه وقلبه، إنه تلميذ بيت النبوة الذي تربى في حجر المصطفى صلى الله عليه وسلم وكفى، علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
إنه الرجل الذي أحب الله ورسوله وأحبه الله ورسوله، إنه الرجل الذي اضطر يوماً لأن يفخر بهذه الفضائل وبتلك المكارم فقال:
محمدٌ النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر من يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي
إننا اليوم على موعد مع الشهيد المظلوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من أسلم من الصبيان:
في أيام الرسالة الأولى يوم أن تنزل جبريل لأول مرة بوحي السماء على أرض مكة، كان هناك علي بن أبي طالب رضي الله عنه في بيت النبوة يستمع إلى القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسرعان ما نطق هذا الصبي الصغير التقي النقي بشهادة الحق وقولة الصدق ليكون أول صبي يدخل في دين الله جل وعلا، كما ورد في الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن صحيح من حديث زيد بن أرقم أنه قال:(أول من أسلم علي) وليس هناك تناقض؛ فإن علياً هو أول من أسلم من الصبيان، وإن أبا بكر هو أول من أسلم من الرجال.
كنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
يكنّى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأبي الحسن، وبأبي ترابٍ؛ وهي كُنيةٌ أطلقها عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما وجده راقداً في المسجد وقد أصاب جسده التراب، بعد أن سقط الرداء عنه، فأخذ النبي يمسح التراب عنه، وهو يردّد:(قُمْ أبَا تُرَابٍ، قُمْ أبَا تُرَابٍ)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة خيبر:
وأنتقل سريعاً مع مواقف علي في حياته قبل الخلافة في غزوة خيبر، في السنة السابعة من الهجرة برزت وتجلت بطولة أسد الله، وظهرت مكانته عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، فلقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى حصون خيبر آخر المعاقل لليهود في المدينة المنورة وحاصرها النبي حصاراً شديداً وطال الحصار
فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً -كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم -:(لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه
أسمعتم أيها الأحبة؟! رجل يحب الله ورسوله أمر عادي على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رجل يحبه الله ورسوله إنه أمر تشرئب إليه الأعناق, ولذا ورد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [والله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذٍ]
يقول سهل بن سعد راوي الحديث: [فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها] أي: يخوضون ويتحدثون، يا ترى من سيكون هذا الرجل الذي سيفتح الله على يديه حصون خيبر المنيعة؟ يا ترى من سيكون هذا الرجل الذي يحبه الله ورسوله؟
فلما أصبح الناس غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشرأبت الأعناق، وحاول كل فارس مغوار أن يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هأنذا, وسكن الجميع وصمت الجمع وشق هذا الصمت الرهيب وهذا السكون الدائم صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:(أين علي بن أبي طالب؟ -إنه رجل الموقف وصاحب الراية- فقالوا: يا رسول الله! إنه يشتكي عينيه)
لقد رمد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتخلف؛ لأنه يشتكي اليوم عينيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(فأرسلوا إليه، فأتي به رضي الله عنه وأرضاه، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم على عينيه ودعا له فبرئ وكأنه لم يكن به وجع، وأعطاه الراية
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: على ماذا أقاتل الناس يا رسول الله؟ -وهذا لفظ مسلم من حديث أبي هريرة – فقال صلى الله عليه وسلم: قاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)
وفي لفظ البخاري:(فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)
وانطلق البطل المغوار والفدائي العظيم الذي علَّم الدنيا شرف البطولة وحقيقة الفداء، وسرعان ما علا صوت النصر على لسان هذا البطل الكبير والفدائي العظيم الذي صرخ بأعلى صوته في وسط حصون خيبر:
” الله أكبر! خربت خيبر، وتم الفتح بموعود الله وبكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد هذا الأسد والبطل الشريف والفدائي الكبير.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة تبوك:
وفي السنة التاسعة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يخلفه في أهله، وخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه يشتكي كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال:(يا رسول الله! تخلفني في النساء والصبيان؟)
فيقول له الحبيب صلى الله عليه وسلم:(يا علي! أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي)، الله أكبر! أي طراز من البشر كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لينال هذه الشهادة الكريمة، وليحصل على هذه المنقبة الكبيرة العظيمة؟
فضل الصحابة رضوان الله عليهم:
في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال -وهذا لفظ مسلم -:(لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)
فهم أهل الصدق وأهل العدالة رضي الله عنهم، وإن من أشد الفترات التي شوهت تاريخهم هذه الفترة التي تبدأ تقريباً من النصف الثاني في خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه والتي انتهت بمقتله ومقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن والحسين ومقتل عدد كبير رهيب من المسلمين، نسأل الله جل وعلا أن يتجاوز عنا وعنهم بمنه وكرمه.
تولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة ومطالبة معاوية والناس بدم عثمان:
وتولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة في وقت عصيب رهيب، وخرج إلى المسجد ليبايع الناس فبايعه المهاجرون والأنصار جميعاً، وما لبث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن بويع إلا ودخل عليه طلحة والزبير رضي الله عنهما مع رءوس الصحابة الكبار في المدينة المنورة
وقالوا: يا أمير المؤمنين لا بد من قتل قتلة عثمان؟ -سبحان الله! – وهنا يبدأ الخلاف؛ فكل فريق له وجهة نظره، وكل فريق له اجتهاده، من الذي يقتله؟ وأي قوة تستطيع الآن أن تقتل قتلة عثمان؟!
لقد تعصب وغضب إليهم كثير من الناس حتى زاد عددهم عن عشرة آلاف فارس مدججين بالسلاح ينتشرون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الذي يستطيع أن يقيم عليهم حد الله بالثأر لقتل دم عثمان في هذا الظرف؟ واعتذر علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [إن قتلة عثمان كثرة ولهم مدد وأعوان] والحق معه بكل المقاييس، إذاً أين القوة التي تستطيع أن تقيم عليهم الحد ولم تستطع أن تحول بينهم وبين قتل الخليفة؟
وخرج الصحابة في غضب وفي ثورة شديدة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وكان من بين هؤلاء الذين ثاروا ثورة شديدة لدم عثمان رضي الله عنه، معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه
وحذار حذار من الخوض في هؤلاء الأطهار الأبرار، فإننا نسمع الآن ونقرأ من يتكلم على هؤلاء الأخيار كلاماً تقشعر له الأبدان وتضطرب له الأفئدة، وهم السابقون الأولون.
ثار معاوية وازدادت ثورته بعدما أرسلت نائلة زوجة عثمان بقميص عثمان الذي قتل فيه، ووضعت فيه أصابعها التي قطعت وهي تدافع عنه، وأرسلت بالقميص والأصابع إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه الذي كان يعتبر نفسه من أوائل الناس ومن أحق الناس مطالبة بدم الخليفة الراحل.
اقرأ أيضاً: قصة عمربن الخطاب رضي الله عنه
ولما رأى معاوية القميص بكى، وأخذ القميص وعلق فيه أصابع نائلة، وعلق القميص على منبر المسجد الدمشقي ولما رآه الناس والصحابة بكوا بكاءً شديداً، وارتفعت الأصوات بالنحيب على موت عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وبايعوا معاوية على الثأر لـ عثمان ولم يبايعوه على الخلافة.
ما بويع معاوية على الخلافة ولم يطلب معاوية الخلافة قط، وإنما كان يطلب الثأر لدم عثمان أو أن يسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه لـ معاوية قتلة عثمان ليقتص منهم لـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه, وهنا بدأ الخلاف الكبير.
فخرج طلحة والزبير إلى مكة المكرمة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فلقد كانت عائشة بـ مكة لأداء مناسك الحج في هذا العام، ولما سمعت عائشة بخبر مقتل عثمان قامت تدعو الناس وتحث الناس للثأر لدم عثمان.
وقد تأولت قول الله جل وعلا الذي رددته كثيراً: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] فخرجت عائشة رضي الله عنها فالتف الناس حولها وقالوا: يا أماه! نحن معك حيث سرت للمطالبة بدم عثمان.
واتفق هذا الجمع كله على الذهاب إلى البصرة ليكونوا قريبين من معاوية رضي الله عنه، وقد ضمن الأمر في المدينة علي بن أبي طالب ليستسمعوا همم الناس للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، وخرجوا جميعاً إلى البصرة.
ولما سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك عزم على أن يخرج بنفسه، فقام عبد الله بن سلام الصحابي الجليل وأخذ بعنان فرسه وقال: [يا أمير المؤمنين! لا تخرج من مدينة رسول الله؛ فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً بعد اليوم]
ورفض الحسن أن يخرج أبوه رضي الله عنه، ولكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: [والله ما خرجنا إلا لأنا نريد الإصلاح بين الناس لا نريد قتالاً]
وإن أعظم دليل على ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من المدينة مع تسعمائة رجل، فهل هذا جيش يريد القتال؟ وفي الطريق التف حوله الناس من كل البقاع واجتمع عليه عدد كبير.
ولما وصل إلى البصرة، وكان قد اجتمع على عائشة وعلى طلحة والزبير عدد كبير من أهل البصرة للمطالبة بدم عثمان أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إليهما -أي: إلى طلحة والزبير – القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه وأرضاه.
اقرأ أيضاً: سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه
فبدأ القعقاع بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقال: يا أماه! ما الذي جاء بك إلى هذه البلاد؟ فقالت: أي بني! ما جئت إلا لأصلح بين الناس.
فقال القعقاع: فأرسلي إلى طلحة والزبير ليحضرا، فحضرا طلحة والزبير.
فقال القعقاع بن عمرو: لقد سألت أمّنا ما الذي أقدمك إلى هذه البلاد؟ فقالت: ما جئت إلا لأصلح بين الناس.
فنطق طلحة والزبير رضي الله عنهما وقالا: والله ما جئنا نحن إلا لذلك.
فقال القعقاع بن عمرو: إذاً فما الذي تريدون؟ نحقق ونتفق على الإصلاح فإن اتفقنا عليه اصطلحنا.
فقال طلحة والزبير رضي الله عنهما: لا نريد إلا أن نقتل قتلة عثمان، فإن تركنا قتلهم فقد تركنا القرآن الكريم.
فقال القعقاع بن عمرو: لقد أتيتم أنتم إلى البصرة فقتلتم قتلة عثمان من البصرة، فغضب لهم ستة آلاف فارس، فتركتموهم فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن حاربتموهم وقعت مفسدة هي أربى من الأولى، فاقتنع طلحة واقتنع الزبير.
فقالت عائشة رضي الله عنها: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ فقال القعقاع رضي الله عنه: أقول: بأن الدواء لهذا الأمر التسكين، وكونوا مفاتيح خير ولا تضيعونا، فإن ما حدث أمر عظيم، وإن كلمة الناس قد اختلفت في جميع الأمصار، وإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه معذور في تأخير قتلة عثمان حتى يتمكن منهم ويقدر عليهم.
للمزيد اقرأ: سلسلة مصابيح الدجى