بئر معونة ويوم الرجيع
هل كثرت ابتلاءات الله عليك، مهما اشتدت عليك المصائب والبلايا والمحن فإنك لم تذق ما ذاق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الشدائد والصعاب والمحن
لقد مدح الله أصحاب النبي لأنهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، فهم الذين آمنوا بالنبي ورسالته، وصدقوه وآزروه ونصروه، وعظموا أمره وتفانوا في طاعته، فقال الله تعالى في مدحهم: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}، لكن هذا الحب لله ورسوله كان بصدق وليس مجرد كلام، بل كان مع صدق الحب لله ورسوله، فكان الاختبار والابتلاء والامتحان بالروح والجسد، ففازوا وأثبتوا صدق حبهم لله ورسوله قولاً وعملاً، وسنتكلم الآن جانباً من هذا الحب والتضحية في حادثة بئر معونة ويوم الرجيع بعون الله
يوم الرجيع
حدث يوم الرجيع في السنة الثالثة، حيث قدم وفد من قبائل عضل والقارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن أخبار الإسلام قد وصلتهم، وهم بحاجة إلى صحابة رسول الله ليعلموهم دين الإسلام، فبعث الحبيب صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه وفيهم: مرثد بن أبي مرثد، خالد بن البكير، عاصم بن ثابت، خبيب بن عدي، زيد بن الدثنة، عبد الله بن طارق، وأمّر عليهم: عاصم بن ثابت
والآن سنتعرف على حادثة الرجيع في صحيح البخاري وحادثة بئر معونة
اقرأ أيضاً في بقعة أمل: متى فرضت الصلاة على المسلمين
حادثة الرجيع في صحيح البخاري
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مئة رام، فاقتصوا آثارهم، حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم فلما انتهى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب، وزيد، ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق
فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجرروه وعالجوه، على أن يصحبهم، فلم يفعل فقتلوه
والآن سنتحدث عن قصة خبيب بن عدي وقصة بئر معونة
قصة خبيب بن عدي في يوم الرجيع
وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة: فاشترى خبيبا بنو الحارث، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها
قالتك فغفلت عن صبي لي، فدرج إليه حتى أتاه، فأجلسه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذاك مني، وفي يده الموسى
فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى. وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب، وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق بالحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين قبل القتل، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما، على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ، يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل المظلة من الدبر، فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء)
بعد أن تعرفنا على التضحية من خبيب وكرامة الله له، سنتعرف على حب زيد بن الدثنة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ ومتى كانت حادثة بئر معونة؟
قول زيد بن الدثنة يوم الرجيع
قال ابن إسحاق: (وأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان: أنشدك بالله يا زيد، أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك، نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمدا)
اقرأ أيضاً في بقعة أمل: قصص المكثرين من الصلاة على النبي
بئر معونة في السيرة النبوية
سنتحدث عن بئر معونة في السيرة النبوية حيث حدثت في السنة الرابعة، حيث قدم عامر بن مالك المشهور بلقب (ملاعب الأسنة) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، ولكنه لم يسلم ولم يظهر أي إعراض عن الإسلام، بل قال: “يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك” فقال عليه الصلاة والسلام: “إني أخشى عليهم أهل نجد”
قال عامر: “أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك”، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين، وكان ذلك في صفر على رأس أربعة أشهر من غزوة أحد
فساروا حتى نزلوا بئر معونة، فلما نزلوها بعثوا أحدهم وهو حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه، وعدا عليه فقتله
3
حادثة بئر معونة
وقد روى البخاري عن حادثة بئر معونة عن أنس بن مالك رضي الله عنه: “أن حرام بن ملحان لما طعن وانتضح الدم في وجهه، صاح: فزت ورب الكعبة”
ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر يستعديهم على بقية الدعاة فأبوا أن يجيبوه وقالوا: “لن نخفر أبا براء (عامر بن مالك)، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم من عصيّة ورعل وذكوان فأجابوه، وانطلقوا فأحاطوا بالقوم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم، فقتل المسلمون عن آخرهم
وكان في سرح الدعاة في بئر معونة اثنان لم يشهدا هذه الموقعة الغادرة بئر معونة، أحدهما: عمرو بن أمية الضمري ولم يعرف النبأ إلا فيما بعد، فأقبلا يدافعان عن إخوانهما فقتل زميله معهم، وأفلت هو فرجع إلى المدينة
وفي الطريق لقي رجلين من المشركين ظنهما من بني عامر فقتلهما، ثم تبين لما وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر أنهما من بني كلاب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أجارهما، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد قتلت قتيلين لأدينّهما
وتأثر النبي صلى الله عليه وسلم لمقتل هؤلاء الدعاة الصالحين من أصحابه في بئر معونة، وبقي شهراً يقنت في صلاة الصبح يدعو على قبائل سليم: رعل وذكوان وبني لحيان وعصيّة
نتائج غزوة بئر معونة
اشتراك المسلمين جميعهم في مسؤولية الدعوة إلى الله وليس الأنبياء والرسل فقط، ويدل على أهمية القيام بواجب الدعوة إرسال النبي سبعين من القراء من خيرة أصحابه، حيث لم يمض أمد طويل على مقتل أصحابه الستة، هي النتيجة الأولى من نتائج غزوة بئر معونة
التربية النبوية والإسلامية للصحابة وخاصة خبيب حيث ظهر ذلك في أسره حيث لم يقتل الطفل مع أنه وقع في الأسر عن طريق الغدر والخيانة، هي النتيجة الثانية من نتائج غزوة بئر معونة
إن الأسير في يد العدو له أن يمتنع عن قبول الأمان، ولا يمكن نفسه لهم ولو قتل، ترفعاً عن أن يجري عليه حكم كافر، كما فعل عاصم، فإن أراد الترخص، فله أن يستأمن، مترقبا الفرصة مؤملا الخلاص كما فعل خبيب وزيد، هي النتيجة الثالثة من نتائج بئر معونة
مدى محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ويذل التضحية بأرواحهم وأفئدتهم في سبيل دين الله تعالى ودفاعاً عن رسوله، هي النتيجة الرابعة من بئر معونة
إن ما كان معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، مع فارق أساسي لا بد منه، وهو أن معجزة النبي تكون مقرونة بالتحدي والنبوة، أما كرامة الأولياء والصالحين: فتأتي عفوية دون اقتران بالتحدي، كما حدث مع خبيب رضي الله عنه وهو ثابت في صحيح البخاري، هي النتيجة الخامسة من بئر معونة
الحكمة من مأساة بئر معونة
قد يتساءل البعض ما الحكمة من تمكين يد الغدر هؤلاء الفتية المؤمنين الذين لم يخرجوا إلا استجابة لأمر الله ورسوله؟ لماذا كانت هذه المأساة في بئر معونة؟
والجواب: أن الله أراد أن يمحص الصادقين من المناقين، ويتخذ منهم شهداء في بئر معونة، قال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}
وقال تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن}